رهان ابو بكر الصديق مع المشركين



 رهان ابو بكر الصديق رحمت الله علية



غلبت الروم، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون، بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم، وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون (الروم 1 - 6) .



نزلت هذه الآيات حين غلب ملك الفرس على بلاد الشام وما والاها من بلاد الجزيرة الواقعة تحت حكم الروم، وظهر عليهم فقتلهم وخرب مدائنهم وقطع زيتونهم، ودارت معركة فاصلة بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إلى أرض العرب، فغلبت فارس الروم، واضطر هرقل ملك الروم إلى الاحتماء بعاصمة ملكه بالقسطنطينية وحاصره فيها الفرس مدة طويلة .


والروم: اسم غلب في كلام العرب على أمة مختلطة من اليونان والصقالبة ومن الرومانيين الذين أصلهم من اللاتينيين سكان بلاد إيطاليا نزحوا إلى أطراف شرق أوروبا، وقامت أمة على هذا المزيج وصارت لهم مملكة تحتل قطعة من أوروبا وقطعة من آسيا الصغرى وهي بلاد الأناضول .

وجاء اتصال الأمة الرومانية بالأمة اليونانية وتكونت أمة الروم من الخليطين، بعد أن استولى اليونان على صقلية وبعض بلاد إيطاليا، وظلوا في اتصالات وحروب سجال مع الرومان حتى عظمت واتسعت مملكة الرومان تدريجا، واتسعت سلطتهم إلى إفريقيا وأداني آسيا الصغرى بغزوات يوليوس قيصر لمصر وشمال إفريقيا وبلاد اليونان .

ومع توالي غزوات القياصرة من بعده صارت مملكة الرومان تبلغ من روما إلى أرمينيا والعراق، ولحق بها البيزنطيون المنسبون إلى مدينة بيزنطة الواقعة في موقع استانبول على البوسفور .

وبعد موت الإسكندر واقتسام قواده المملكة من بعده صارت بيزنطة دولة مستقلة، وانضوت تحت سلطة روما فحكمها قياصرة الرومان إلى أن صار قسطنطين قيصرا لروما وانفرد بالسلطة في حدود سنة 322 ميلادية، وجمع شتات المملكة فجعل لها عاصمتين، واحدة غربية هي روما، وعاصمة شرقية اختطها مدينة عظيمة على بقايا مدينة بيزنطة وسماها قسطنطينية، وانصرفت همته إلى سكناها فنالت شهرة تفوق روما .

فرح وشماتة

وهذا الغلب الذي ذكر في هذه الآية هو انهزام الروم في الحرب التي جرت بينهم وبين الفرس سنة 615 ميلادية، وذلك أن خسرو بن هرمز ملك الفرس غزا الروم في بلاد الشام وفلسطين وهي من البلاد الواقعة تحت حكم هرقل قيصر الروم، فنازل أنطاكية ثم دمشق وكانت الهزيمة العظيمة على الروم في أطراف بلاد الشام المحاذية لجزيرة العرب بين بصرى وأذرعات، وذلك هو المراد في هذه الآية: (في أدنى الأرض)، أي أدنى بلاد الروم إلى بلاد العرب .

وكان المشركون من أهل مكة يحبون أن تظهر فارس على الروم، لأنهم مثلهم أصحاب أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس، لأنهم مثلهم أهل كتاب، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة فشق ذلك عليهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يظهر الأميون من أهل المجوس على أهل الكتاب من الروم، وفرح كفار مكة وشمتوا، فلقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الروم، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم، فأنزل الله تعالى: الم غلبت الروم في أدنى الأرض إلى آخر الآيات .

فلما نزلت هذه الآيات قال المشركون لأبي بكر: ألا ترى إلى ما يقول صاحبك؟، يزعم أن الروم تغلب فارس، قال: صدق صاحبي، وفي رواية: فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا؟، فلا تفرحوا ولا يقر الله عينكم فوالله ليظهرن الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا، فقام إليه أبي بن خلف فقال: كذبت، فقال أبو بكر: أنت أكذب يا عدو الله، قال: أناحبك (أراهنك) عشر قلائص مني وعشر قلائص منك، (جمع قلوص وهي الناقة الشابة)، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين .

ثم جاء الصديق أبو بكر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: ما هكذا ذكرت، إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده في الخطر وماده في الأجل، فخرج أبو بكر فلقي أبيا فقال: لعلك ندمت؟، قال: لا، قال: تعال أزيدك في الخطر، وأمادك في الأجل، فأجعلها مائة قلوص، بمائة قلوص إلى تسع سنين، قال: فعلت، وذلك قبل تحريم الرهان .

ولما بدأت هجرة أصحاب رسول الله إلى المدينة خشي أبي بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة فأتاه ولزمه وقال: إني أخاف أن تخرج من مكة، فأقم كفيلا، فكفله ابنه عبد الله، وكان على الكفر يومئذ، فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد أتاه عبد الله بن أبي بكر وقال له: لا والله لا أدعك تخرج حتى تعطيني كفيلا فأعطاه كفيلا، فخرج إلى أحد ثم رجع إلى مكة وبه جراحة حيث جرحه النبي صلى الله عليه وسلم حين بارزه يوم أحد فمات منها بمكة، وانتصر الروم على فارس فغلب أبو بكر أبيا وأخذ الخطر من ورثته، فجاء يحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا سحت تصدق به .

تخيير أمهات المؤمنين

يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً . وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً (الأحزاب: 27) .

في الصحيح عن ابن عباس قال: مكثت سنة وأنا أريد، أن أسأل، عمر بن الخطاب عن آية، فما أستطيع، حتى خرج حاجا فخرجت معه، فكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له، فوقفت له حتى فرغ، ثم سرت معه، فقلت يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه؟، فقال تلك حفصة وعائشة، قال: فقلت له والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة، فما أستطيع هيبة لك، قال: فلا تفعل، ما ظننت أن عندي من علم فسلني عنه، فإن كنت أعلمه أخبرتك، ثم قال: والله إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمراً حتى أنزل الله تعالى فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم، قال: فبينما أنا في أمر أأتمره، إذ قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا وكذا، فقلت لها: وما لك أنت ولما هاهنا؟، وما تكلفك في أمر أريده؟، فقالت لي: عجباً لك يا ابن الخطاب، ما تريد أن تراجع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان .

قال عمر: فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: نعم، فقلت: أتهجره إحداكن اليوم إلى الليل؟، قالت: نعم، قلت: قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا هي قد هلكت؟ لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تسأليه شيئاً، وسليني ما بدا لك، ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، يريد عائشة .



اعتزال الرسول لأزواجه



يقول: وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر، ونحن حينئذ نتخوف ملكا من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا، فقد امتلأت صدورنا منه، فأتى صاحبي الأنصاري يدق الباب، وقال: افتح افتح، فقلت: جاء الغساني فقال: أشد من ذلك، اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه .



وأخذ عمر أثوابه وخرج من فوره، يقول: دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصى، ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، قال: فدخلت على عائشة، فقلت: يا بنت أبي بكر أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، فقالت: ما لي وما لك يا ابن الخطاب، عليك بعيبتك، قال: فدخلت على حفصة بنت عمر فقلت لها: يا حفصة أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبك، ولولا أنا لطلقك، فبكت أشد البكاء فقلت لها: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، قالت: هو في خزانته في المشربة .


وخرج عمر قاصدا رسول الله، فإذا هو صلى الله عليه وسلم في مشربة له يرتقي إليها بعجلة، وعليها رباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رباح استأذن لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل ثم خرج إلي، فقال: قد ذكرتك له فصمت، فانطلقت حتى انتهيت إلى المنبر فجلست، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم، فجلست قليلا ثم غلبني ما أجد، ثم أتيت الغلام فقلت استأذن لعمر، فدخل ثم خرج إلي، فقال قد ذكرتك له فصمت، فوليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني فقال ادخل فقد أذن لك، فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثر في جنبه، فقلت: أطلقت يا رسول الله نساءك؟، فرفع رأسه إلى وقال: لا، فقلت: الله أكبر، لو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فتغضبت على امرأتي يوماً، فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني، فقالت: ما تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل، فقلت: قد خاب من فعل ذلك منهن وخسر، أفتأمن إحداهن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا هي قد هلكت، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت: لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم منك وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، فتبسم أخرى .

الله ورسولة



فقلت: أستأنس يا رسول الله؟ قال: نعم، فجلست فرفعت رأسي في البيت فوالله ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر إلا أهبا ثلاثة، فقلت: ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك، فقد وسع على فارس والروم، وهم لا يعبدون الله، فاستوى جالساً ثم قال: أفي شك أنت يا ابن الخطاب، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، فقلت: استغفر لي يا رسول الله، فقلت: يا رسول الله أطلقتهن؟، قال: لا، قلت: يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى يقولون طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال: نعم إن شئت، فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه، وحتى كشر فضحك، وكان من أحسن الناس ثغراً ثم نزل نبي الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه .






ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على زوجاته، وبدأ بعائشة فقال: يا عائشة إني ذاكر لك أمراً فلا عليك ألا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك، ثم قرأ الآية: يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً . وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً، قالت عائشة: قد علم والله أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه، قالت فقلت: أوفي هذا أستأمر أبوي؟، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم خير النبي صلى الله عليه وسلم أزواجه، فقلن ما قالت عائشة، واخترن جميعا الله ورسوله .

ليست هناك تعليقات